فصل: تفسير الآية رقم (95):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نظم الدرر في تناسب الآيات والسور (نسخة منقحة)



.تفسير الآية رقم (95):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (95)}
ولما أخبرهم بالابتلاء صرح لهم بما لوح إليه بذكر المخافة من تحريم التعرض لما ابتلاهم به، فقال منوِّهاً بالوصف الناهي عن الاعتداء: {يا أيها الذين آمنوا} وذكر القتل الذي هو أعم من الذبح إشارة إلى أن الصيد- لما عنده من النفرة المانعة من التمكن من ذبحه- يحبس بأي وجه كان من أنواع القتل فقال: {لا تقتلوا الصيد} أي لا تصطادوا ما يحل أكله من الوحش، وأما غير المأكول فيحل قتله، فإنه لاحظ للنفس في قتله إلا الإراحة من أذاه المراد بالفسق في قوله صلى الله عليه وسلم: «خمس في الدواب فواسق، لا جناح على من قتلها في حل ولا حرم» وذكر منهن السبع العادي، فدل الحكم برفع الجناح عقب الوصف بالفسق على أنه علة الإباحة، ولا معنى لفسقها إلا أذاها {وأنتم حرم} أي محرومون أو في الحرم.
ولما كان سبحانه عالماً بأنه لابد أن يوافق موافق تبعاً لأمره ويخالف مخالف موافقة لمراده، شرع لمن خالف كفارة تخفيفاً منه على هذه الأمة ورفعاً لما كان على من كان من قبلها من الآصار، فقال عاطفاً على ما تقديره: فمن انتهى فله عند ربه أجر عظيم: {ومن قتله منكم متعمداً} أي قاصداً للصيد ذاكراً للإحرام إن كان محرماً، والحرم إن كان فيه عالماً بالتحريم.
ولما كان هذا الفعل العمد موجباً للإثم والجزاء، ومتى اختل وصف منه كان خطأ موجباً للجزاء فقط، وكان سبحانه قد عفا عن الصحابة رضي الله عنهم العمد الذي كان سبباً لنزول الآية كما في آخرها، لم يذكره واقتصر على ذكر الجزاء فقال: {فجزاء} أي فمكافأة {مثل ما قتل} أي أقرب الأشياء به شبهاً في الصورة لا النوع، ووصف الجزاء بقوله: {من النعم} لما قتله عليه، أي عليه أن يكافئ ما قتله بمثله، وهو من إضافة المصدر إلى الفاعل، هذا على قراءة الجماعة بإضافة {جزاء} إلى {مثل}، وأما على قراءة الكوفيين ويعقوب بتنوين {جزاء} ورفع {مثل} فالأمر واضح.
ولما كان كأنه قيل: بما تعرف المماثلة؟ قال: {يحكم به} أي بالجزاء؛ ولما كانت وجوه المشابهة بين الصيد وبين النعم كثيرة، احتاج ذلك إلى زيادة التأمل فقال: {ذوا عدل منكم} أي المسلمين، وعن الشافعي أن الذي له مثل ضربان: ما حكمت فيه الصحابة، وما لم تحكم فيه، فما حكمت فيه لا يعدل إلى غيره لأنه قد حكم به عدلان فدخل تحت الآية، وهم أولى من غيرهم لأنهم شاهدوا التنزيل وحضروا التأويل؛ وما لم يحكموا به يرجع فيه إلى اجتهاد عدلين، فينظر إلى الأجناس الثلاثة من الأنعام، فكل ما كان أقرب شبهاً به يوجبانه؛ فإن كان القتل خطأ جاز أن يكون الفاعل أحد الحكمين، وإن كان عمداً فلا، لأنه يفسق به.
ولما كان هذا المثل يساق إلى مكة المشرفة على وجه الإكرام والنسك رفقاً بمساكينها، قال مبيناً لحاله من الضمير في {به}: {هدياً} ولما كان الهدي هو ما تقدم تفسيره، صرح به فقال: {بالغ الكعبة} أي الحرم المنسوب إليها، وإنما صرح بها زيادة في التعظيم وإعلاماً بأنها هي المقصودة بالذات بالزيارة والعمارة لقيام ما يأتي ذكره، تذبح الهدي بمكة المشرفة ويتصدق به على مساكين الحرم، والإضافة لفظية لأن الوصف بشبه يبلغ فلذا وصف بها النكرة.
ولما كان سبحانه رحيماً بهذه الأمة، خيرها بين ذلك وبين ما بعد فقال: {أو} عليه {كفارة} هي {طعام مساكين} في الحرم بمقدار قيمة الهدي، لكل مسكين مد {أو عدل ذلك} أي قيمة المثل {صياماً} في أيّ موضع تيسر له، عن كل مد يوم، فأو للتخيير لأنه الأصل فيها، والقول بأنها للترتيب يحتاج إلى دليل.
ولما كان الأمر مفروضاً في المتعمد قال معلقاً بالجزاء، أي فعليه أن يجازي بما ينقص المال أو يؤلم الجسم {ليذوق وبال} أي ثقل {أمره} وسوء عاقبته ليحترز عن مثل ما وقع فيه؛ ولما كان هذا الجزاء محكوماً به في دار العمل التي لا يطلع أهلها بمجرد عقولهم فيها على غيب، ولا يعرفون عاقبة أمر إلاّ تخرصاً، طرد الحكم في غير المتعمد لئلا يدعي المتعمد أنه مخطئ، كل ذلك حمى لحرمة الدين وصوناً لحرمة الشرع وحفظاً لجانبه ورعاية لشأنه، ولما كان قد مضى منهم قبل نزولها من هذا النوع أشياء، كانوا كأنهم قالوا: فكيف نصنع بما أسلفنا؟ قال جواباً: {عما سلف} أي تعمده، أي لكم من ذلك، فمن حفظ نفسه بعد هذا فاز {ومن عاد} إلى تعمد شيء من ذلك ولو قل؛ ولما كان المبتدأ متضمناً معنى الشرط، قرن الخبر بالفاء إعلاماً بالسببية فقال: {فينتقم الله} أي الذي له الأمر كله {منه} أي بسبب عوده بما يستحقه من الانتقام.
ولما كان فاعل ذلك منتهكاً لحرمة الإحرام والحرم، وكان التقدير: فالله قادر عليه، عطف على ذلك ما اقتضاه المقام من الإتيان بالاسم الأعظم ووصف العزة فقال: {والله} أي الملك الأعلى الذي لا تداني عظمتَه عظمةٌ {عزيز} لا يغلب {ذو انتقام} ممن خالف أمره.

.تفسير الآيات (96- 97):

{أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (96) جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (97)}
ولما كان هذا عاماً في كل صيد، بين أنه خاص بصيد البر فقال: {أحل لكم صيد البحر} أي اصطياده، أي الذي مبناه غالباً على الحاجة، والمراد به جميع المياه من الأنهار والبرك وغيرها {وطعامه} أي مصيده طرياً وقديداً ولو كان طافياً قذفه البحر، وهو الحيتان بأنواعها وكل ما لا يعيش في البر، وما أكل مثله في البر.
ولما أحل ذلك ذكر علته فقال: {متاعاً لكم} أي إذا كنتم مسافرين أو مقيمين {وللسيارة} أي يتزودونه إلى حيث أرادوا من البر أو البحر، وفي تحليل صيد البحر حال الابتلاء من النعمة على هذه الأمة ما يبين فضلها على من كان قبلها ممن جعل صيد البحر له محنة يوم الابتلاء- ولله الحمد، والظاهر أن المراد بصيد البحر الفعل، لأن ثَمَّ أمرين: الاصطياد والأكل، والمراد بيان حكمهما، فكأنه أحل اصطياد حيوان البحر، وأحل طعام البحر مطلقاً ما اصطادوه وما لم يصطادوه، سواء كانوا مسافرين أو مقيمين، وذلك لأنه لما قدَّم تحريم اصطياد ما في البر بقوله: {لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم} [المائدة: 95] أتبعه بيان إحلال اصطياد مصيد البحر في حال تحريم ذلك، ثم أتبعه بيان حرمة مصيد البر بقوله: {وحرم عليكم صيد البر} أي اصطياده وأكل ما صيد منه لكم وهو ما لا عيش له إلاّ فيه، وما يعيش فيه وفي البحر، فإن صيدَ للحلال حل للمحرم أكله، فإنه غير منسوب إليه اصطياده بالفعل ولا بالقوة {ما دمتم حرماً} لأن مبنى أمره غالباً في الاصطياد والأكل مما صيد على الترف والرفاهية، وقد تقدم أيضاً حرمة اصطياد مصيد البر وحرمة الأكل مما صيد منه، وتكرر ذلك بتكرر الإحرام في آية {غير محلي الصيد} [المائدة: 1] وآية {لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم} [المائدة: 95] فلا يعارضه مفهوم {ما دمتم حرماً} [المائدة: 96] وعبر بذلك ليكون نصاً في الحرمة في كل جزء من أجزاء وقت الإحرام إلى تمام التحلل- والله أعلم، ولا يسقط الجزاء بالخطأ والجهل كسائر محظورات الإحرام.
ولما كان الاصطياد بحشر المصيد إلى حيث يعجز عن الخلاص منه، وكانت حالة الإحرام أشبه شيء بحالة الحشر في التجرد عن المخيط والإعراض عن الدنيا وتمتعاتها، ختم الآية بقوله عطفاً على ما تقديره: فلا تأكلوا شيئاً منه في حال إحرامكم: {واتقوا الله} أي الذي له الأمر كله في ذلك وفي غيره من الاصطياد وغيره {الذي إليه تحشرون} ليكون العرض عليه نصبَ أعينكم فتكونوا مواظبين على طاعته محترزين عن معصيته.
ولما كان الإحرام وتحريم الصيد فيه إنما هو لقصد تعظيم الكعبة، بين تعالى حكمة ذلك وأنه كما جعل الحرم والإحرام سبباً لأمن الوحش والطير جعله سبباً لأمن الناس وسبباً لحصول السعادة دنيا وأخرى، فقال مستأنفاً بياناً لحكمة المنع في أول السورة من استحلال من يقصدها للزيارة: {جعل الله} أي بما له من العظمة وكمال الحكمة ونفوذ الكلمة {الكعبة} وعبر عنها بذلك لأنها مأخوذة من الكعب الذي به قيام الإنسان وقوامه، وبيّنها مادحاً بقوله: {البيت الحرام} أي الممنوع من كل جبار دائماً الذي تقدم في أول السورة أني منعتكم من استحلال من يؤمّه {قياماً للناس} أي في أمر معاشهم ومعادهم لأنها لهم كالعماد الذي يقوم به البيت، فيأمن به الخائف ويقوى فيه الضعيف ويقصده التجار والحجاج والعمّار فهو عماد الدين والدنيا.
ولما ذكر ما به القوام من المكان، أتبعه ذلك من الزمان فقال: {والشهر الحرام} أي الذي يفعل فيه الحج وغيره يأمن فيه الخائف.
ولما ذكر ما به القوام من المكان والزمان، أتبعه ما به قوام الفقراء من شعائره فقال: {والهدي} ثم أتبعه أعزَّه وأخصه فقال: {والقلائد} أي والهدي العزيز الذي يقلد فيذبح ويقسم على الفقراء، وفي الآية التفات إلى ما في أول السورة من قوله: {يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام} [المائدة: 2]- فقوانينُها أن من قصدها في شهر الحرام لم يتعرض له أحد ولو كان قتل ابنه، ومن قصدها في غيره ومعه هدي قلده أو لم يقلده أو لم يكن معه هدي وقلد نفسه من لَحاء شجر الحرم لم يعرِض له أحد حتى أن بعضهم يلقي الهدي وهو مضطر فلا يعرض له ولو مات جوعاً، وسواء في ذلك صاحبه وغيره لأن الله تعالى أوقع في قلوبهم تعظيمها، لأنه تعالى جبل العرب على الشجاعة ليفتح بهم البلاد شرقاً وغرباً ليظهرعموم رسالة نبيهم صلى الله عليه وسلم، فلزم من ذلك شدة حرصهم على القتل والغارات، وعلم أن ذلك إن دام بهم شَغلَهم عن تحصيل ما يحتاجون إليه لعيشهم، فأدى إلى فنائهم، فجعل بيته المكرم وما كان من أسبابه أماناً يكون به قوام معاشهم ومعايشهم، فكان ذلك برهاناً ظاهراً على أن الإله عالم بجميع المعلومات وأن له الحكمة البالغة.
ولما أخبر بعلة التعظيم لما أمر بتعظيمه من نظم أمور الناس، ذكر علة ذلك الجعل فقال: {ذلك} أي الجعل العظيم الذي تم أمره على ما أراد جاعله سبحانه {لتعلموا} أي بهذا التدبير المحكم {أن الله} أي الذي له الكمال كله الذي جعل ذلك {يعلم ما في السماوات} فلذلك رتبها ترتيباً فصلت به الأيام والليالي، فكانت من ذلك الشهور والأعوام، وفصّل من ذلك ما فصل للقيام المذكور {وما في الأرض} فلذلك جعل فيها ما قامت به مصالح الناس وكف فيه أشدهم وأفتكهم عن أضعفهم وآمن فيه الطير والوحش، فيؤدي ذلك من له عقل رصين وفكر متين إلى أن يعلم أن فاعل ذلك من العظمة ونفوذ الكلمة بحيث يستحق الإخلاص في العبادة وأن يمتثل أمره في إحلال ما أحل من الطعام وتحريم ما حرم من الشراب وغير ذلك.
ولما ذكر هذا العلم العظيم، ذكر ما هو أعم منه فقال: {وأن} أي ولتعلموا أن {الله} أي المحيط بكل شيء قدرة وعلماً الذي فعل ذلك فتم له {بكل شيء عليم} وإلاّ لما أثبت جميع مقتضيات ذلك ونفى جميع موانعه حتى كان، ولقد اتخذ العرب- كما في السيرة الهشامية وغيرها- طواغيت، وهي بيوت جعل لها سدنة وحجاباً وهدايا أكثروا منها، وعظمت كل قبيلة ما عندها أشد تعظيم وطافوا به فلم يبلغ شيء منها ما بلغ أمر الكعبة المشرفة ولا قارب، ليحصل العلم بأنه سبحانه لا شيء مثله ولا شريك له.

.تفسير الآيات (98- 101):

{اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (98) مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ (99) قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (100) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآَنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (101)}
ولما أنتج هذا كله أنه على كل شيء قدير لأنه بكل شيء عليم، وكانت هذه الآية- كما تقدم- ناظرةً إلى أول السورة من آية {لا تحلوا شعائر الله} [المائدة: 2] وما بعدها أتم نظر، ذكر سبحانه ما اكتنف آية {حرمت عليكم الميتة} [المائدة: 3] من الوعيد الذي ختم به ما قبلها والوعد الذي ختمت هي به في هذه الآية على ترتيبه، سائقاً له مساق النتيجة والثمرة لما قبله، بياناً لأن من ارتكب شيئاً من هذه المنهيات كان حظه، فقال محذراً ومبشراً لأن الإيمان لا يتم إلاّ بهما: {اعلموا أن الله} أي الذي له المعظمة كلها الذي نهاه عنها {شديد العقاب} فليكن عباده على حذر منه، وأن من أوقعه في شيء منها القدر، ثم فتح له التوفيقُ بابَ الحذر، فكفر فيما فيه كفارة وتاب، كان مخاطباً بقوله: {وأن} أي واعلموا أن {الله} أي الذي له الجلال والإكرام مع كونه شديد العقاب {غفور رحيم} يقبل عليه ويمحو زلله ويكرمه، فكان اكتناف أسباب الرجاء سابقاً للإنذار ولاحقاً معلماً بأن رحمته سبقت غضبه وأن العقاب إنما هو لإتمام رحمته، قال ابن الزبير: ثم قال {جعل الله الكعبة} [المائدة: 97]- فنبه على سوء العاقبة في منع البحث على التعليل وطلب الوقوف على ما لعله مما استأثر الله بعلمه، ومن هذا الباب أتى على بني إسرائيل في أمر البقرة وغير ذلك؛ وجعل هذا التنبيه إيماء، ثم أعقبه بما يفسره {يا أيها الذين آمنوا لا تسئلوا عن أشياء} [المائدة: 101]- ووعظهم بحال غيرهم في هذا، وأنهم سألوا فأعطوا ثم امتحنوا، وقد كان التسليم أولى لهم، فقال تعالى: {قد سألها قوم من قبلكم ثم أصبحوا بها كافرين} [المائدة: 102] ثم عرّف عباده أنهم إذا استقاموا فلن يضرهم خذلان غيرهم {يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم} [المائدة: 105]- انتهى.
ولما رغب سبحانه ووهب، علم أنه المجازى وحده، فأنتج ذلك أنه ليس إلى غيره إلاّ ما كلفه به، فأنتج ذلك ولابد قوله: {ما على الرسول} أي الذي من شأنه الإبلاغ {إلا البلاغ} أي بأنه يحل لكم الطعام وغيره ويحرم عليكم الخمر وغيرها، وليس عليه أن يعلم ما تضمرون وما تظهرون ليحاسبكم عليه {والله} أي المحيط بكل شيء قدرة وعلماً {يعلم ما تبدون} أي تجددون إبداءه على الاستقرار {وما تكتمون} من إيمان وكفر وعصيان وطاعة وتعمد لقتل الصيد وغيره ومحبة للخمر وغيرها وتعمق في الدين بتحريم الحلال من الطعام والشراب وغيره إفراطاً وتفريطاً، لأنه الذي خلقكم وقدّر ذلك فيكم في أوقاته، فيجازيكم على ما في نفس الأمر، من عصي أخذه بشديد العقاب، ومن أطاعه منحه حسن الثواب، وأما الرسول صلى الله عليه وسلم فلا يحكم إلاّ بما يعلمه مما تبدونه ما لم أكشف له الباطن وآمره فيه بأمري، وهذه أيضاً ناظرة إلى قوله تعالى: {بلّغ ما أنزل إليك من ربك} [المائدة: 67].
ولما سلب سبحانه العلم عن كل أحد وأثبته لنفسه الشريفة، أنتج ذلك أنه لا أمر لغيره ولا نهي ولا إثبات ولا نفي، فأخذ سبحانه يبين حكمة ما مضى من الأوامر في إحلال الطعام وغيره من الاصطياد والأكل من الصيد وغيره والزواجر عن الخمر وغيرها بأن الأشياء منها طيب وخبيث، وأن الطيب وإن قل خير من الخبيث وإن كثر، ولا يميز هذا من ذاك إلاّ الخلاق العليم، فربما ارتكب الإنسان طريقة شرعها لنفسه ظانّاً أنها حسنة فجرته إلى السيئة وهو لا يشعر فيهلك، كالرهبانية التي كانوا عزموا عليها والخمر التي دعا شغفُهم بها إلى الإنزال فيها مرة بعد أخرى إلى أن أكد فيها هنا أشد تأكيد، وحذر فيها أبلغ تحذير، فقال تعالى صارفاً الخطاب إلى أشرف الورى صلى الله عليه وسلم إشارة إلى أنه لا ينهض بمعرفة هذا من الخلق غيرُه: {قل لا يستوي الخبيث} أي من المطعومات والطاعمين {والطيب} أي كذلك، فإن ما يتوهمونه في الكثرة من الفضل لا يوازي النقصان من جهة الخبيث.
ولما كان الخبيث من الذوات والمعاني أكثر في الظاهر وأيسر قال: {ولو أعجبك كثرة الخبيث} والخبيث والطيب منه جسماني ومنه روحاني، وأخبثهما الروحاني وأخبثه الشرك، وأطيب الطيب الروحاني وأطيبه معرفة الله وطاعته، وما يكون للجسم من طيب أو خبث ظاهر لكل أحد، فما خالطه نجاسة صار مستقذراً لأرباب الطباع السليمة، وما خالط الأرواح من الجهل صار مستقذراً عند الأرواح الكاملة المقدسة، وما خالطه من الأرواح معرفةُ الله فواظب على خدمته أشرق بأنوار المعارف الإلهية وابتهج بالقرب من الأرواح المقدسة الطاهرة، وكما أن الخبيث والطيب لا يستويان في العالم الروحاني كذلك لا يستويان في العالم الجسماني، والتفاوت بينهما في العالم الروحاني أشد، لأن مضرة خبث الجسماني قليلة، ومنفعة طيبه يسيرة، وأما خبث الروحاني فمضرته عظيمة دائمة، وطيب الروحاني منفعته جليلة دائمة، وهي القرب من الله والانخراط في زمرة السعداء، وأدلّ دليل على إرادة العصاة والمطيعين قوله: {فاتقوا الله} أي اجعلوا بينكم وبين ما يسخط الملك الأعظم الذي له صفات المال من الحرام وقايةً من الحلال لتكونوا من قسم الطيب، فإنه لا مقرب إلى الله مثلُ الانتهاء عما حرم- كما تقدم الإشارة بقوله: {ثم اتقوا وأحسنوا} [المائدة: 93] ويزيد المعنى وضوحاً قوله: {يا أولي الألباب} أي العقول الخالصة من شوائب النفس فتؤثروا الطيب وإن قل في الحبس لكثرته في المعنى على الخبيث وإن كثر في الحس لنقصه في المعنى {لعلكم تفلحون} أي لتكونوا على رجاء من أن تفوزوا بجميع المطالب، وحينئذ ظهر كالشمس مناسبة تعقيبها بقوله على طريق الاستئناف والاستنتاج: {يا أيها الذين آمنوا} أي أعطوا من أنفسهم العهد على الإيمان الذي معناه قبول جميع ما جاء به مَنْ وقع به الإيمان {لا تسئلوا عن أشياء} وذلك لأنهم إذا كانوا على خطر فيما يسرعون وفيما به ينتفعون من المآكل والمشارب وغيرها من الأقوال والأفعال فهم مثله فيما عنه يسألون سواء سألوا شرعه أو لا، لأنه ربما أجابهم من لا يضره شيء إلى ما فيه ضررهم مما سألوه، فإنهم لا يحسنون التفرقة بين الخبيث والطيب كما فعل بأهل السبت حيث أبوا الجمعة وسألوه، فاشتد اعتناقها حينئذ بقوله:
{إن الله يحكم ما يريد} [المائدة: 1] وبقوله: {ما على الرسول إلا البلاغ} [المائدة: 99] فكان كأنه قيل: فما بلغكم إياه فخذوه بقبول وحسن انقياد، وما لا فلا تسألوا عنه، وسببُ نزولها- كما في الصحيحين عن أنس رضي الله عنه «أنهم سألوا النبي صلى الله عليه وسلم حتى أحفوه بالمسألة، فغضب فصعد المنبر فقال: لا تسألوني اليوم عن شيء إلا بينته لكم- وشرح يكرر ذلك، وإذ جاء رجل كان إذا لاحى الرجال يدعى لغير أبيه فقال: يا رسول الله! من أبي؟ قال: أبوك حذافة، ثم أنشأ عمر رضي الله عنه فقال: رضينا بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد رسولاً، نعوذ بالله من سوء الفتن. وفي آخره: فنزلت {يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم}» وللبخاري في التفسير عن أنس أيضاً قال: «خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبة ما سمعت مثلها قط، قال: لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً، فغطى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وجوههم، لهم حنين، فقال رجل: من أبي؟ قال: فلان، فنزلت {لا تسئلوا عن أشياء}» الآية. وللبخاري أيضاً عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «كان قوم يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم استهزاء فيقول الرجل: من أبي؟ ويقول الرجل تضل ناقته: أين ناقتي؟ فأنزل الله فيهم هذه الآية: {يا أيها الذين آمنوا لا تسئلوا عن أشياء} حتى فرغ من الأية كلها» ولابن ماجه مختصراً وللحافظ أبي القاسم بن عساكر في الموافقات فيما أفاده المحب الطبري في مناقب العشرة وأبي يعلى في مسنده مطولاً عن أنس رضي الله عنه قال: «خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو غضبان ونحن نرى أن معه جبرئيل عليه السلام حتى صعد المنبر- وفي رواية: فخطب الناس- فقال: سلوني! فوالله لا تسألوني عن شيء اليوم إلا أخبرتكم وفي رواية: أنبأتكم به- فما رأيت يوماً كان أكثر باكياً منه، فقال رجل: يا رسول الله- وفي رواية: فقام إليه رجل فقال: يا رسول الله- إنا كنا حديث عهد بجاهلية، من أبي؟ قال: أبوك حذافة- لأبيه الذي كان يدعى له- وفي رواية: أبوك حذافة الذي تدعى له- فقام إليه آخر فقال: يا رسول الله أفي الجنة أنا أم في النار؟ فقال: في النار، فقام إليه آخر فقال: يا رسول الله! أعلينا الحج كل عام؟- وفي رواية: في كل عام- فقال: لو قلت: نعم، لوجبت، ولو وجبت لم تقوموا بها، ولو لم تقوموا بها عذبتم، فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: رضينا بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً- وفي رواية: رسولاً- لا تفضحنا بسرائرنا- وفي رواية: فقام إليه عمر ابن الخطاب رضي الله عنه فقال: يا رسول الله! إنا كنا حديث عهد بجاهلية فلا تبد علينا سرائرنا، أتفضحنا بسرائرنا- اعف عنا عفا الله عنك، فسرى عنه، ثم التفت إلى الحائط فذكر بمثل الجنة والنار» وللإمام أحمد ومسلم والنسائي والدارقطني والطبري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: خطب- وفي رواية: خطبنا- رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «يا أيها الناس! إن الله قد فرض عليكم الحج حجوا»، فقال رجل- وفي رواية النسائي: «فقال الأقرع بن حابس التميمي-: أكل عام يا رسول الله؟ فسكت حتى قالها ثلاثاً، فقال: من السائل؟ فقال: فلان، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده! لو قلت: نعم، لوجبت، ثم إذا لا تسمعون ولا تطيعون، ولكن حجة واحدة» وفي رواية الدارقطني والطبري: «ولو وجبت ما أطقتموها، ولو لم تطيقوها» وفي رواية الطبري: «ولو تركتموه لكفرتم»، فأنزل الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تسئلوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم} ثم قال: «ذروني ما تركتكم، فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بشيء فآتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه- وفي رواية: فاجتنبوه» وهذا الحديث له ألفاظ كثيرة من طرق شتى استوفيتها في كتابي: الاطلاع على حجة الوداع ولا تعارض بين هذه الأخبار ولو تعذر ردها إلى شيء واحد لما تقدم عند قوله تعالى: {لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم} من أن الأمر الواحد قد تعدد أسبابه، بل وكل ما ذكر من أسباب تلك وما أشبهه كقوله تعالى: {ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة فلما كتب عليهم القتال} [النساء: 77]- الآية، يصلح أن يكون سبباً لهذه، وروى الدارقطني في آخر الرضاع من سننه عن أبي ثعلبة الخشني وفي آخر الصيد عن أبي الدرداء رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله تعالى فرض فرائض فلا تضيعوها، وحرم حرمات فلا تنتهكوها، وحد حدوداً فلا تعتدوها، وسكت عن أشياء من غير نسيان فلا تبحثوا عنها» وقال أبو الدرداء: «فلا تكلفوها، رحمة من ربكم فاقبلوها» وأخرج حديث أبي الدرداء أيضاً الطبراني.
ولما كان الإنسان قاصراً عن علم ما غاب، فكان زجره عن الكشف عما يسوءه زجراً له عن كل ما يتوقع أن يسوءه، قال تعالى: {إن تبد} أي تظهر {لكم} بإظهار عالم الغيب لها {تسؤكم} ولما كان ربما وقع في وهم متعنت أن هذا الزجر إنما هو لقصد راحة المسؤول عن السؤال خوفاً من عواقبه- قال: {وإن تسئلوا عنها} أي تلك الأشياء التي تتوقع مساءتكم عند إبدائها {حين ينزل القرآن} أي والملك حاضر {تبد لكم} ولما كان ربما قال: فما له لا يبديها سئل عنها أم لا؟ قال: {عفا الله} بما له من الغنى المطلق والعظمة الباهرة وجميع صفات الكمال {عنها} أي سترها فلم يبدها لكم رحمة منه لكم وإراحة عما يسوءكم ويثقل عليكم في دين أو دنيا؛ ولما كانت صفاته سبحانه أزلية، لا تتوقف لواحدة منها على غيرها، وضع الظاهر موضع المضمر لئلا يختص بما قبله فقال نادباً من وقع منه ذنب إلى التوبة: {والله} أي الذي له مع صفة الكمال صفة الإكرام {غفور} أزلاً وأبداً يمحو الزلات عيناً وأثراً ويعقبها بالإكرام على عادة الحكماء {حليم} أي لا يعجل على العاصي بالعقوبة.